على الناصية
والكتابة بحد ذاتها، تشكل في خلاصتها نوعا من مخاطبة الذات، تساعدنا على اكتشاف أنفسنا من خلال اكتشاف الآخرين والكشف عن الأشياء التي تتناولها هذه الكتابة - سميح القاسم
(1)
لقد كبرنا هنا دون أن ننتبه، لم يسمح لنا بأن نكبر على مهل. غافلنا العمر فوجدنا أنفسنا وقد كبرنا - محمود درويش
أكمل بعد شهور قليلة الثالثة والعشرين، ومعها أكمل الحياة الجامعية -إن شاء الله- وخليط مشاعر متضاربة يجول في خلدي.
لم أحب يوما التعليم الأكاديمي، ولم أستطع التأقلم مع الجامعة أبدا رغم قضائي 5 سنوات بين جدرانها. لطالما اعتبرت أن يوم تخرجي سيكون ميلادي الثاني في هذه الحياة، وأتمنى أن يكون كذلك.
ترنحت دائما بين مقولتين لا تغيبان عن ذهني، يقول سميح القاسم: "فأهلنا الذين يحبوننا يريدون لنا أن نصبح في عداد الأطباء والمحامين والمهندسين وسواهم من أصحاب الدخل المؤكد، ونحن الذين نحب أهلنا نريد لأنفسنا وعيا وعمدا وعن سبق إصرار، مهنة أخرى، قد يخسر المرء فيها كل شيء إلا أنه يكسب نفسه حتما. أراد لنا أهلنا سعادة تردع الشقاء واخترنا لأنفسنا شقاء يبدع السعادة" بينما يقول أحمد سالم في أحد نصوصه الجميلة: "مما قرأته وأعجبني: أن الحياة سلسلة طويلة لا تكاد تنتهي من الموازنات والتفضيلات، ليس هناك اختيارات حرة تختارها في رخاء، دائمًا صراع الموازنة والتفضيل. ولكل اختيار ضحاياه، في صراع محموم؛ كي لا تكون أنت الضحية، وتتفادى مع ذلك أن تضحي بكل من تحب، أما التضحية ببعض من وما تحب = فأمر حتمي" وبين هذين النقلين يكمن صراع العناد، والتنازل، صراع مواجهة الرياح، أو الانحناء وتركها تمر بسلام.
تعب سميح بسبب خياره هذا، واجه الكثير والكثير للتشبث بهذا الخيار لكنه بقي منتصبا واقفا رافعا رأسه ويغني بأعلى صوته "منتصب الهامة أمشي"، بينما في اليد الأخرى قد ينحني الإنسان قليلا حتى يستطيع إكمال حياة لم يختر فيها أن يولد في عجلة كبيرة جدا، أكبر من قدرة أي جمع على التوقف عن الدوران فيها، قادرة على الإطاحة بأي متوقف.
(2)
وأصدق الأسماء: الحارث وهمام - سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
"فليس ذلك [أي العناء النفسي البشري الذي حصل] إلا لأنها [أي الثورات] قامت على مجموعة مثاليات جديدة خارقة للمألوف: اعتقاد عملي بالمساواة الطبيعية لجميع البشر، وبالقدرة غير المحدودة لأي شخص على تحقيق أي شيء. خلال الجزء الأعظم من التاريخ، كان عكس ذلك هو الافتراض السائد، حيث سلّم الحكماء والعاديون على السواء، لقدر التفاوت بين الناس والتطلعات المنخفضة."
يأتي الإنسان إلى هذه الحياة مع مؤقِّت جاهز، يبدأ عدّه في مهده، ويتوقف عن العد في لحده، وبين المهد واللحد يقرر الإنسان من يريد أن يكون، إما أن يقرر العيش كـ (بشري)، أو أن يقرر العيش كـ (شيء). ثم يصنع العصر الحديث منه آلة تصارع الوقت والزمن والسنن الكونية، يبدأ طحن الإنسان من عمر مبكرة في مطحنة تسمى المدرسة، بنظام عسكري لا يمت للإنسانية بصلة، تمر السنين ويتخرج ويدخل الجامعة، التي تعدّه ليكون منتَجا صالحا للاستهلاك في سوق العمل، حيث يكون مثاليا ومفصلا على المقاس، فهو يدرس لأجل أن يعمل، ويعمل لأنه استطاع الحصول على الشهادة، وبين هذا وذاك يكون الإنسان قد حوّل عملية التعلم المقدسة في كل الحضارات الإنسانية إلى عملية اختبارات وسوق عمل، ولمَ لا بعض الغش أيضا! إن المفهوم المقدس للعلم في الحضارات الإنسانية كان يضعه في منزلة عالية جدا، ويضع لكل متعلم منزلة يبلغها، فالبليد لا يكون له أن يبلغ منازل المجتهد إلا بمراتب عالية من التعب والجد، والمجتهد لا يليق به البقاء في منازل البليد، قبل أن يأتي العصر الحديث ليعلن للجميع أن البليد والمجتهد سيتساويان في طريقة الدراسة والمنهج المطروح والوقت المقدر للشرح والاختبارات، وحتى في فرص الغش، وهكذا ينشأ لدينا تحوّل مفهوم (العلم) إلى مفهوم (الدراسة). ثم يبدأ الإنسان الدوران في فلك الحياة، فإن اختار العيش كبشري، فلابد من أن يحدد أهدافه الكبرى في حياته، وبعدها تكون تلك الأهداف بوصلة إشارات وعلامات له في مسيره الحياتي. وإذا اختار الحياة كـ (شيء) فهيهات هيهات أن يفكر بأكثر من قوت يومه، ولعبته القادمة، ووجبته التالية، ورحلاته، وغير ذلك مما يبقيه بعيدا عن التفكير في نفسه، وحياته، وقدراته، وغير ذلك من الأمور التي عندما يضطر لمواجهتها ستكون صادمة له. مع تدقيق النظر نجد أن غاية الإنسان تتحول بمرور الزمن إلى الحصول على وظيفة جيدة، أو الحصول على عمل مستقل (بزنس) يدير أموره عن بعد، وهكذا تتلخص الغاية في الاكتفاء المادي، دون أي تفكير بتركيب النفس الإنسانية، ثم ينبع عن ذلك الأسئلة المتتالية: لماذا أقرأ وأتثقف؟ لماذا ألعب الرياضة؟ لماذا أقوّي صلتي بالله؟ لماذا ولماذا.. إلى أن يصل إلى تجريد نفسه من الخصائص الإنسانية والتحول الكامل إلى مفهوم (المنتَج). والمطلوب؟ والمطلوب من الإنسان أن يدرك كونه إنسانا، لا يعيش ولا يتحرك إلا بغاية، فإن عاش دونها عاش عالة على التاريخ والحضارة والإنسانية. أي تاريخ وأي حضارة وما دخلهما هنا؟ نعود لسميح القاسم ونقتبس منه جملته العظيمة: "لسنا غصنا مقطوعا من شجرة هذه الأمة. نحن حراس أحلامها وسدنة نهارها الطاهرة. كان الله في عوننا. كان الله في عوننا" ثم ننطلق إلى كاتب آخر ونقتبس منه جملة رائعة أيضا يقول فيها: "عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أما عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض". وما معنى ذلك كله؟ معناه أننا كائنات تاريخية بطبعها، لا يمكنها الانفصال عن تاريخها وحضارتها وأمتها، وأننا بشر بخلقتنا لا يمكن تعليبنا بالتعليب المدرسي والجامعي الذي يسمى (تعليما) بهتانا وزورا، وأننا كائنات تتحرك بالأهداف والإرادة، دائمة السعي، وصدق خير البرية حين قال: "أصدق الأسماء الحارث وهمام".
إن الإنسان الذي فقد إحدى تلك الصفات، يفقد إنسانيته بقدر ذلك، فمن كانت أهدافه من نوعية إنهاء المسلسل الفلاني أو ختم اللعبة الفلانية، فهو المخذول في إنسانيته، المعادي لطبيعته، المعاند لفطرته، وأما من كانت أهدافه كبيرة مفيدة، ممتلئة بِهَمّ تحقيقها وإفادة النفس والآخرين بها، وسخر حياته للعمل عليها، مكملا للتاريخ ومنتميا للأمة اللذين ينبثق منهما، فذاك والله الإنسان، وهو هو السعيد.
(3)
ذهبت العبارات وفنيت الإشارات وما نفعتنا إلا ركعات ركعناها في جوف الليل - الجنيد قدس الله سره
في جملة عزيزة على
قلبي أرددها دائما يقول أحدهم: "كنتُ كلما نصحته قال لي: هل ترى صف الشيبان
الذي في المسجد= إذا كبرت سني سأكون معهم ولا أخرج من المسجد. كانت حجتي معه: من قال إن سنك ستكبر، أليس الموت يأتي فجأة؟!
مضت السنون ومات قرب الثمانين، ولم يركع لله ركعة.
إن الأماني هي وقود الغفلة، كلما استيقظ الإنسان من
غفلته، أعادته إليها الأماني، حتى يتصرم عمره من بين يديه فيلقى الله لم يعمل
صالحة تنجيه"
تخيل حبالا مربوطين ببعضهم البعض بطريقة عشوائية وأنت تحاول سحب أحدهم، كم سيكلفك سحبه من عناء وتعامل مع الحبال الأخرى؟ هذه هي الحياة باختصار، آلاف الحبال الممدودة في كل اتجاه المترابطة مع بعضها بطرق يغلب أن حرقها كاملة = أسهل من انفكاكها عن بعضها البعض.
لن يكون الإنسان يوما مالك أمره ولا مقدّر ظروفه، لا مارد هنا لتخرجه من داخلك، ولا عملاق لتحرره من نومه، كل ما هنالك أننا عبيد لرب غفور رحيم، غافر الذنب وقابل التوب.
الحبل الوحيد الذي يؤدي لتخريب كل ما سواه هو الدين، والدين هو الوحيان وما حولهما، والقرآن هو حبل الله الممدود، فمن استمسك به هدي، ومن أعرض عنه ضل وفتن.
إن حياتنا اليوم كلها ملهيات عن الله واليوم الآخر، بل هي مصممة حتى تلهي عنهما، فلا مكان في عصرنا هذا للإنسان الإلهي (كما يعبر عنه المسيري) فهذا الإنسان صاحب هدف ومبدأ وغاية، توقفه حدود الدين ونواهيه، وضوابط الأخلاق وروادعها، وهذا مما لا يزيد في ثراء (إيلون ماسك) ولا في نعرات الجاهلية الأولى
يقول الحجة الغزالي -أسبغ الله عليه رحماته-: "اعلم أيها الولد والمحب العزيز -أطال الله بقاءك بطاعته، وسلك بك سبيل أحبائه-: أن منشور النصيحة يكتب من معدن الرسالة عليه الصلاة والسلام؛ إن كان قد بلغك منه نصيحة، فأي حاجة لك في نصيحتي؟ وأن لم تبلغك، فقل لي: ماذا حصلت في هذه السنين الماضية"
إي والله ماذا حصلنا؟ إن القلب الذي ليس فيه قرآن كالبيت الخرب، يستقبل النكتة تلو النكتة، من سواد إلى سواد، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ونسأل الله أن لا يجعل قلوبنا ذاك القلب
إن عمر الشباب هو عمر المسارعة للخيرات واستباقها، وإننا مقصرون إلى أخمص قدمينا، مغموسون في الحياة وزخرفها ونعيمها، ولم نحضّر جوابا لسؤال "وعن شبابه فيما أبلاه" سوى
طمعنا بعفو الله ومغفرته، وحسن الظن به جل جلاله "أنا عند ظن عبدي بي"
ومالي غير باب الله باب
ولا مولى سواه ولا حبيب
كريم منعم بر لطيف
جميل الستر للداعي مجيب
حليم لا يعاجل بالخطايا
رحيم غيث رحمته يصوب
فيا ملك الملوك أقل عذاري
فإني عنك أنأتني الذنوب
المهم أن تكون الحصيلة النهائية للرسم البياني بارتفاع لا بانخفاض وأفلح من زان نفسه وحاسبها "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك









أضف تعليق